فصل: قال الطبري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اختلفوا في تفسير الفضل الذي لأجله صاروا محسودين على قولين:
فالقول الأول: أنه هو النبوة والكرامة الحاصلة بسببها في الدين والدنيا.
والقول الثاني: أنهم حسدوه على أنه كان له من الزوجات تسع.
واعلم أن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة، فكلما كانت فضيلة الإنسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم، ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين، ثم إنه تعالى أعطاها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وضم إليها أنه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصارًا وأعوانًا وكل ذلك مما يوجب الحسد العظيم.
فأما كثرة النساء فهو كالأمر الحقير بالنسبة إلى ما ذكرناه، فلا يمكن تفسير هذا الفضل به، بل إن جعل الفضل اسما لجميع ما أنعم الله تعالى به عليه دخل هذا أيضا تحته، فأما على سبيل القصر عليه فبعيد.
واعلم أنه تعالى لما بين أن كثرة نعم الله عليه صارت سببا لحسد هؤلاء اليهود بين ما يدفع ذلك فقال: {فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم مُّلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] والمعنى أنه حصل في أولاد ابراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك، وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدونه، فلم تتعجبون من حال محمد ولم تحسدونه؟
واعلم أن {الكتاب} إشارة إلى ظواهر الشريعة {والحكمة} إشارة إلى أسرار الحقيقة، وذلك هو كمال العلم، وأما الملك العظيم فهو كمال القدرة.
وقد ثبت أن الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة، فهذا الكلام تنبيه على أنه سبحانه آتاهم أقصى ما يليق بالإنسان من الكمالات، ولما لم يكن ذلك مستبعدا فيهم لا يكون مستبعدا في حق محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إنهم لما استكثروا نساءه قيل لهم: كيف استكثرتهم له التسع، وقد كان لداود مائة ولسليمان ثلثمائة بالمهر وسبعمائة سرية؟. اهـ.

.قال الطبري:

وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، قولُ قتادة وابن جريج الذي ذكرناه قبل: أن معنى الفضل في هذا الموضع: النبوّة التي فضل الله بها محمدًا، وشرّف بها العرب، إذ آتاها رجلا منهم دون غيرهم لما ذكرنا من أن دلالة ظاهر هذه الآية، تدلّ على أنها تقريظٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رحمة الله عليهم، على ما قد بينا قبل. وليس النكاح وتزويجُ النساء وإن كان من فضْل الله جل ثناؤهُ الذي آتاه عباده بتقريظ لهم ومدح. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا} أخبر تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيمًا.
قال همام بن الحارث: أُيِّدوا بالملائكة.
وقيل: يعني ملك سليمان؛ عن ابن عباس.
وعنه أيضًا: المعنى أم يحسدون محمدًا على ما أحلّ الله له من النساء فيكون المُلْك العظيم على هذا أنه أحل لداود تسعا وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك.
واختار الطّبرِي أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء.
والمراد تكذيب اليهود والردّ عليهم في قولهم: لو كان نبيًا ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوّة عن ذلك؛ فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان يوبّخهم، فأقرّت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ألف امرأة؟» قالوا: نعم ثلاثمائة مَهْرية، وسبعمائة سَرِيَة، وعند داود مائة امرأة. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ألف عند رجل ومائة عند رجل أكثر أوتسع نسوة»؟ فسكتوا. وكان له يومئذ تسع نسوة. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقولُه تعالى: {فَقَدْ ءاتَيْنَا} تعليلٌ للإنكار والاستقباحِ وإلزامٌ لهم بما هو مُسلَّمٌ عندهم وحسمٌ لمادة حسَدِهم واستبعادِهم المبنيَّيْن على توهّم عدمِ استحقاقِ المحسودِ لِما أوتيَ من الفضل ببيان استحقاقِه له بطريق الوراثةِ كابرًا عن كابر، وإجراءُ الكلامِ على سَنن الكبرياءِ بطريق الالتفاتِ لإظهار كمالِ العنايةِ بالأمر، والمعنى أن حسدَهم المذكورَ في غاية القبحِ والبُطلانِ فإنا قد آتينا من قبلِ هذا {إبراهيم الكتاب} الذين هم أسلافُ محمدٍ عليه الصلاة والسلام أو أبناءُ أعمامِه {الكتاب والحكمة} أي النبوة {وءاتيناهم} مع ذلك {مُّلْكًا عَظِيمًا} لا يقادَر قدرُه فكيف يستبعدون نبوتَه عليه الصلاة والسلام ويحسُدونه على إيتائها، وتكريرُ الإيتاءِ لما يقتضيه مقامُ التفضيلِ مع الإشعار بما بين النبوةِ والمُلكِ من المغايرة، فإن أريد به الإيتاءُ بالذات فالمرادُ بآل إبراهيمَ أنبياؤهم خاصة، والضميرُ المنصوبُ في الفعل الثاني لبعضهم إما بحذف المضافِ أو بطريق الاستخدامِ لما أن المُلكَ لم يُؤتَ كلَّهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الملكُ في آل إبراهيمَ مُلكُ يوسفَ وداودَ وسليمانَ عليهم السلام إن أريد به ما يعُمّه وغيرَه من الإيتاء بالواسطةِ وهو اللائقُ بالمقام والأوفقُ لما قبله من نسبة إيتاءِ الفضلِ إلى الناس، فالمرادُ بآل إبراهيمَ كلُّهم فإن تشريفَ البعضِ بما ذُكر من إيتاء النبوةِ والمُلكِ تشريفٌ للكل لاعتنائهم بآثاره واقتباسِهم من أنواره، وفي تفصيل ما أُوتوه وتكريرِ الفعلِ ووصفِ المُلكِ بالعِظَم وتنكيرِه التفخيميِّ مع تأكيد الإلزامِ وتشديدِ الإنكارِ ما لا يخفى.
هذا هو المتبادرُ من النظم الكريمِ وإليه جنحَ جمهورُ أئمةِ التفسيرِ لكن الظاهرَ حينئذ أن يكون قولُه تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} حكايةً لما صدر عن أسلافهم عَقيبَ وقوعِ المحكيِّ من غير أن يكون له دخْلٌ في الإلزام الذي سيق له الكلامُ أي فمن جنس هؤلاءِ الحاسدين وآبائِهم مَن آمن بما أوتي آلُ إبراهيمَ ومنهم من أعرضَ عنه، وأما جعلُ الضميرين لما ذُكر من حديث آلِ إبراهيمَ فيستدعي تراخيَ الآيةِ الكريمةِ عما قبلها نزولًا، كيف لا وحكايةُ إيمانِهم لاحديث المذكورِ وإعراضِهم عنه بصيغة الماضي إنما يُتصوّر بعد وقوع الإيمانِ والإعراضِ المتأخِّرَين عن سماع الحديثِ المتأخرِ عن نزوله، وكذا جعلُهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذِ الظاهرُ بيانُ حالِهم بعد هذا الإلزامِ.
وحملُه على حكاية حالِهم السابقةِ لا تساعده الفاءُ المرتبةُ لما بعدها على ما قبلها، ولا يبعُد كلَّ البعدِ أن تكون الهمزةُ لتقرير حسدِهم وتوبيخِهم بذلك ويكونَ قولُه تعالى: {فَقَدْ ءاتَيْنَا} الآية، تعليلًا له بدِلالته على إعراضهم عما أوتي آلُ إبراهيم وإن لم يُذكرْ كونُه بطريق الحسدِ كأنه قيل: بل أيحسُدون الناسَ على ما آتاهم الله من فضله ولا يؤمنون به؟ وذلك دِيدنُهم المستمرُّ فإنا قد آتينا آلَ إبراهيمَ ما آتينا، فمنهم أي من جنسهم مَنْ آمن بما آتيناهم ومنهم من أعرض عنه ولم يؤمن به والله سبحانه أعلمُ، وفيه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال القرطبي:

يقال: إن سليمان عليه السلام كان أكثر الأنبياء نساء.
والفائدة في كثرة تزوّجه أنه كان له قوة أربعين نبِيًا، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا.
ويقال: إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة؛ لأن لكل امرأة قبيلتين قبيلة من جهة الأب وقبيلة من جهة الأم؛ فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فتكون عَونا له على أعدائه.
ويقال: إن كل من كان أتقى فشهوته أشدّ؛ لأن الذي لا يكون تقيًا فإنما يتفرّج بالنظر والمس، ألا ترى ما رُوي في الخبر: «العينان تزنيان واليدان تزنيان» فإذا كان في النظر والمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع، والمُتَّقي لا ينظر ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثَر جماعا.
وقال أبو بكر الورّاق: كلّ شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب؛ ولهذا كان الأنبياء يفعلون ذلك. اهـ.

.قال أبو حيان:

وتضمنت هذه الآية تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم في كونهم يحسدونه ولا يتبعونه، فذكر أنَّهم أيضًا مع أسلافهم وأنبيائهم انقسموا إلى مؤمن وكافر، هذا وهم أسلافهم فكيف بنبي ليس هو منهم؟. اهـ.

.قال في البحر المديد:

قال بعض الحكماء: (الحاسدُ يضرُّ نفسه ثلاث مضرات: إحداها: اكتساب الذنوب؛ لأن الحسد حرام. الثانية: سوء الأدب مع الله تعالى فإنَّ حقيقة الحسد: كراهية إنعام الله على غيره، واعتراض على الله في فعله. الثالثة: تألم قلبه وكثرة همه وغمه). عافانا الله من ذلك كله، فالحاسد لا ينفك عن نار الحجاب وغم الحساب، والمتطهر منه يدخل جنة الرضى والتسليم في جوار الحبيب، وهو محل الراحة والأمن في الدارين، وهو الظل الظليل. والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال في روح البيان:

وقد شبه بعض الحكماء ابن آدم في حرصه على الجمع ووخامة عاقبته بدود القز الذي يكاد ينسج على نفسه بجهله حتى لا يكون له مخلص فيقتل نفسه ويصير القز لغيره فاللائق بشأن المؤمن القناعة بما رزقه الودود وترك الحرص والبذل من الموجود. اهـ.

.قال ابن كثير:

{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} يعني بذلك: حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له؛ لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل.
قال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا قيس بن الربيع، عن السدي، عن عطاء، عن ابن عباس قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه} الآية، قال ابن عباس: نحن الناس دون الناس، قال الله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} أي: فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل- الذين هم من ذرية إبراهيم- النبوة، وأنزلنا عليهم الكتب، وحكموا فيهم بالسنن- وهي الحكمة- وجعلنا فيهم الملوك، ومع هذا {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} أي: بهذا الإيتاء وهذا الإنعام {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} أي: كفر به وأعرض عنه، وسعى في صد الناس عنه، وهو منهم ومن جنسهم، أي من بني إسرائيل، فقد اختلفوا عليهم، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ}: بل ينكرون تخصيص الحق سبحانه لأوليائه بما يشاء حسدًا من عند أنفسهم فلا يقابلونهم بالإجلال، وسُنَّةُ الله سبحانه مع أوليائه مضت بالتعزيز والتوقير لهم. ودأبُ الكافرين جرى بالارتياب في القدرة؛ فمنهم من آمن بهم، ومنهم من ردَّ ذلك وجحد، وكفى بعقوبة الله منتقمًا عنهم. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكًا عَظِيمًا}.
والحسد هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ربنا قد اصطفاه واختاره للرسالة، ولذلك قال بعض منهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
إذن فالقرآن مقبول في نظرهم، لكن الذي يحزنهم أنه نزل على محمد، وهذا من تغفيلهم، وهو مثل تغفيل من قالوا: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32].
لقد تمنوا الموت والقتل رميا بالحجارة من السماء ولم يتمنوا اتباع الحق، وهذا قمة التغفيل الدال على أنها عصبية مجنونة، ولذلك يقول الحق: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32].